تجمدت نظرات رضوى إبنة الإثناعشر ربيعا على الصورة المؤلمة التى ينقلها التلفاز لمشهد جنازة الأم وأطفالها الأربعة ظهر ذاك اليوم الحزين من الأيام الأخيرة لشهر أبريل عام2008 وقد أسجيت جثة الأم على المحفة ومن ورائها جثث الأطفال الذين لايتجاوزعمر أكبرهم أربعة أعوام بين أيدى ذويهم تلفهم أكفان من الأعلام الفلسطينية لفا كاملا فيما عدا وجوههم التى تركت مكشوفة ليرى العالم أجمع الذى طال صمته نظرات تلك الأعين البريئة الخابية التى إنطفأ نورها وعلامة إستفهام حيرى تتساءل على إستحياء بأى ذنب حكم عليهم بالإعدام بقذائف الأسلحة الذكية التى أطلقت فوق بيوتهم من طائرات تركب الغمام وماالفائدة الأمنية العظمى التى جناها المعتدى من وراء إستلاب الحياة من أجسادهم الطاهرة وهدم بديع صنع الله .. والخلق من حولهم بالمئات يكادون من شدة جزعهم وأسفهم أن ينفلت زمامهم ويتخطفونهم من الأيدى ليحولوا بين هذه الأجسام الطاهرة وبين الرغام ! كما لوكان يحدوهم الأمل أن يعيدهم الخالق - سبحانه - الى الحياة رحمة بهم وبذويهم الذين تفطرت أفئدتهم حزنا عليهم .. وهكذا إنغرست عينا الصغيرة رضوى فى تأمل ماتراه من هول المشهد الجنائزى فى صمت عميق طال فيه غيابها وشرودها وكأنها إنتقلت معهم إلى الحياة الأخرى أو على شفا ذلك كما توهم والدها الذى أسرع ينقذها فأغلق التلفاز وأمسك بها من منكبيها وطفق يهزها بشدة وينادى عليها بإسمها بصوت عال أزعج كل آل البيت فجاءوا يهرولون من كل مكان بهلع يتساءلون عما عساه قد حدث وتنفسوا الصعداء عندما سمعوا صوتها يتهدج وهى تبكى قائلة :
- بابا .. أنا عايزه \" نونو \" !
ورمق الأب إبنته - الأثيرة لديه - مشفقا عليها ما تعانيه من جراء ما رأته فى التلفاز منذ لحظات وألقاها على صدره الحنون مربتا على ظهرها فى حركة سريعة متلاحقة عسى أن يتكفل حنان الأبوة الصادق بتبديد ما أرهق أحاسيسها البكر المرهفة وهو يهمهم معاتبا الأم :
- ألم أنبه بعدم مشاهدة القنوات التى تنقل مناظر جنازات الشهداء الفلسطينيين التى تتزايد كل يوم و ...
وقاطعته الفتاة مكررة بإصرار ونفاذ صبرودون وعى وبصوت محزون :
- بابا.. عايزة نونو !
فتدخلت الأم قائلة وكأن كل همها الدفاع عن نفسها :
- تلقى وعدك .. هذه آخرة تدلياك لها !
وسكنت لحظة ثم إستتلت :
- إننا إن أغلقنا تلفازنا فلا نضمن ألاتشاهد تلك المناظر فى أى تلفاز آخر !
وأومأ الأب لها برأسه موافقا وقال مهونا الأمر :
- معك حق والله !
وسكن هنيهة بدوره وأضاف فيما يشبه العذاب منفعلا :
- أنا لاأدرى ماذا أفعل .. أنا لاأستطيع أن أقلل من حبى لها لأتمكن من مواجهتها بحسم وحزم !
وسكت ثانية ليبتلع ريقه وإسترسل :
- هيا .. تصرفى معها بكلامك الحلو المؤثر حتى تفهم أن الشهداء الصغار أبرار وانهم طيور الجنة الوهاجة الأجنحة !
وانتحت الأم بإبنتها جانبا وأسرت فى أذنها حديثا عن أنها كانت آخر \" حبات العنقود \" متعمدة ألا يسمع أحد غيرها ماتقوله لها لتشعرها بأهميتها - على عادة الأطفال - ثم أتمت كلامها قائلة بصوت علا بغتة :
- قدأرضانا الله سبحانه ورزقنا بالبنت والولد .. بارك الله فيك وفى أختك وأخيك .. فقط نربيكم تربية حسنة !
بيد أنها فوجئت بإبنتها تسألها :
- أى عنقود يا ماما .. هل أنت شجرة عنب ؟!
وتعمد الجميع إعتبارها دعابة لإشاعة روح المرح فى نفسها وفى جو البيت الذى ران عليه الأسف الشديد والحزن الكئيب لما شاهدوه منذ قليل فى التلفاز فتناوبوا الضحك وهم يتبادلون نظرة تفاهم ولما وجدوا أنها شاركتهم من حيث لاتدرى الضحك أمعنوا فيه لدرجة القهقهة غيرأن الصغيرة وعلى حين غرة أجهشت بالبكاء جهيشا محزنا كأنها تذكرت أمرا يبدوأنه توغل كثيرا فى أعماقها وحفر لنفسه من الأخاديد ما ينبىء بأنه سيستقر فيها مدى الحياة فإحتبست الأصوات فى حناجرهم وماتت ضحكتهم وتبادلوا علامة إستفهام كبرى عما عساه يكون قد حدث للصغيرة المسكينة وبعثت الأم بعينيها للأب رسائل الإسترحام والرجاء أن يغوص فى أعماقها ويقتلع بما له من تأثير خاص عليها الأحزان من منابتها ويطفو بها من الأعماق الغريقة إلى سطح الوعى الذى مهما كان مشحونا بالمآسى والألام فإنه أكثر أمنا من القاع .
تابع ..................
الجزء الثانى .
لم يفكر الأب طويلا .. كان يعرف بخبرته وثقافته وسعة إطلاعه أن إبنته إستنزفت قدرا كبيرا من طاقتها النفسية فى الإنفعالات التى إكتنفتها وهى تشاهد جثث الأم واطفالها الصغار وكان بينهم رضيعا لايتعدى عمره بضعة أشهر وأن تعويض بعض هذه الطاقة يستلزم \" تجديد الهواء \" ولذلك أومأ للأم برأسه متفهما ونظر فى ساعة يده وإلى النهار من خلال النافذة وأومأ برأسه ثانية لكن هذه المرة كانت لنفسه وهو يردد فى صوت خفيض :
- حمدا لله أن اليوم يوم عطلة وأننا مازلنا نمتلك ناصية النهار .. ماشى ! هيا بنا يا حبيبتى ....
وإجتذب إبنته من يدها وهو يتمتم لها مردفا بمرح من يداوى جراحا :
- سأطير بك بين المتنزهات والملاهى .. سأجعلك تحلمين بتلك الفسحة طول العمر !
- دريم بارك يا بابا !
- إلى \" دريم بارك \" لنذهب من فورنا !
- أحبك يا بابا !
- هيا يا ملاكى !
وعلى إستحياء ترددت على وجه الأم بداية إستبشار وتفاؤل وانية وتورد هذا المحيا المعذب قليلا وهى تتنهد وتغالب لتتناسى صور المأساة التى عرضها التلفاز والتى سببت لإبنتها الصغرى بل وللكبرى أيضا ولشقيقها وللأب ولها ولكن بقدر متفاوت تلك الآلام المبرحة للنفس والتى لايتحملها بدن يحوى أقل قدر من الإحساس والتعاطف الإنسانى وناهيك عن أواشج وعرى القرابة بحكم وحدة المنشأ والقومية والقضية والمصير ..
- إن الشقيق الفلسطينى يحارب نيابة عن باقى أفراد الأ سرة لا عن وطنه ووجوده فحسب كما يتصور بعض من تخلى عنه من أشقائه سواء كرها أو طوعا .. إنها عين ألقضية التى إنتصر فيها صلاح الدين وحرر الأقصى والقدس من الهجمة التى تأتى دوما من الغرب وما الدولة العبرية هذه المرة إلا \" مخلب قط \" !
وإنتبهت الأم من معركتها الصغيرة مع نفسها إلى صوت المتحدث وخالت لأول وهلة أن أحدا أعاد فتح التلفاز وإنبرت لتعنيف من قام بذلك فإذا بها تكتشف أن الصوت كان لإبنها وهو يتجاذب أهداب الحديث مع شقيقته وبدا لها أنه كان يقرأ أفكارها وأفكار الجميع ومع ذلك أوصته وأخته أن يحبسا - ولو مؤقتا - تلك الأفكار داخل برجى عقليهما لأن فى البيت \" مشكلة \" وإن سرت روح الحديث بينهم على هذا النحو فستتفاقم ولن تفلح الجهود المبذولة لإقالة أختهما الصغرى من كبوتها النفسية ويبدو أنها مست فى أعماق الولد والبنت وترا حساسا لأن وجهيهما إمتقعا بغتة فى توقيت واحد وبدا انهما على وشك البكاء ولم تفهم الأم المسكينة إن كان مرد ذلك حكم الموقف عموما أم أنها إرتكبت بقولها خطأ وتنازعتها إنفعالات شتى فلم تتحمل وأنشجت تبكى وهى تتساءل حيرى ومعذبة وعيناها تنظران لأعلى :
- رباه .. ماذا حدث لنا جميعا ؟
وتسمر الإبن فى وقفته على حين تحركت الفتاة إلى أمها مدفوعة بنوازع الرحمة والحنان وإحتضنتها وهى موزعة بين تكفيف دموعها ودموع امها مغمغمة :
- إننا جميعا فى الحقيقة نعانى لارضوى وحدها ولا خلاص لنا إلا بأن نهتف فى الشوارع قائلين للشعب الفلسطينى .. لست وحدك !
نطقت تلك الكلمات وأسرعت تهرول خارجة من البيت وشقيقها فى أعقابها كأنهما أزمعا على الفور تنفيذ ما جرى على لسانها من البحث عن تظاهرة للتضامن مع الأشقاء الذين قدر لهم أن يحرقوا - أرضا وبشرا - بأيدى من سبق لهم ان عانوا ويلات - المحرقة التاريخية - التى أضرمها ويتحدث عنها الآن بكل الإجلال من ينتمى للعالم الغربى الذى يساندهم الآن بكل قواه تكفيراعن ذنبهم ولتحقيق المأرب التاريخى الذى حال الناصر \" صلاح الدين \" بينهم وبين تحقيقه وعبثا حاولت الأم إيقافهما بالنداء عليهما أن يرجعا فإنهما سرعان ما تواريا عن ناظريها فارتمت على إحدى الأرائك منهارة وواصلت البكاء إلى أن تعبت وراحت فى النعاس ولم تدر بنفسها ولا كم من الوقت نامت إذ فوجئت عندما إستيقظت بالليل قد أرخى سدوله وبالظلام يعم البيت فقامت متثاقلة وأنارت كل الأرجاء ودلفت إلى المطبخ وتشاغلت بإعداد الطعام لمن تترقب عودتهم بين لحظة وأخرى ودعت الله أن يجىء بالعواقب سليمة وألا يكون قد تعرض أحد من اسرتها لمكروه وفيما هى كذلك دخل الأب حاملا إبنته وبادرها قبل أن تجزع موضحا أنها الآن على خير مايرام وانها نائمة لاأكثر وعندما سألها عن الإبن والإبنة الأخرى إستشعر فى لهجتها قلقا شديدا فطمأنها عليهما مؤكدا لها بالقول السائد حاليا بين العامة تبريرا لكل ضروب التقصير \" أن كل فى شغل بأمر نفسه وأن لاأحد لديه وقتا للإهتمام بأحد لدرجة ظهور أعمال مسرحية عن \" مدرسة المشاغبين \" وعن \" أخويا هايص وأنالايص !\" وعن \" الشاهد اللى ماشافش حاجة \" .. وماما أميركا ! وختم خطبته وهو يضع برفق إبنته على الأريكة التى كانت تنام عليها الأم منذ قليل قائلا :
- بإختصار .. كل شىء هادىء فى الشارع .. وعما قليل يحضران ..
وماكاد ينتهى من قوله حتى دخل عليهما كل من الفتى والفتاة فى إثر بعضهما والإرهاق الشديد باد عليهما وبداأنهما يقاسيان أكثر من خجل أوخيبة أمل .. وتظاهر الوالدان بأنهم لايلحظان شيئا مخافة أن يتطور مايشعران به إلى إحباط .. وتناولت الأسرة وجبة الغداء فى وقت العشاء لما وقع من امور غير مؤاتية فى هذا اليوم وأووا جميعا إلى فراشهم وكلهم أمل أن يكون الغد أفضل .. ولكن الغد أتى بما لم يخيب رجاءهم فحسب .. بل بما أسقط قدرتهم جميعا على فهم الموقف وتصديق ماتراه أعينهم .....
تابع ........
الجزء الثالث
فقد عادت رضوى من المدرسة وبين ذراعيها .. لا ليست حقيبتها المدرسية - فهذه مكانها دوما فوق ظهرها - وإنما وليد رضيع لايتجاوز عمره بضعة أيام ! .
كان ملفوفا بعناية فى أغطية جديدة تناسب طقس الشتاء على الرغم من أن الدنيا كانت ربيعا والجو بديعا ودخول الصغيرة بمولود قد أقفل كل \" المواضيع الطبيعية \" التى يمكن لأى قريحة بشرية تخيلها ..
وكانت لاتصدر عنه أية روائح غير رائحة الأطفال حديثى الولادة مما رجح أنه ألقى به فى الشارع قبيل أن تلتقطه \"رضوى\" التى لم تتردد لحظة عن حمله إلى البيت وكأنها عثرت على ضالتها أو \" كنز \" وعلى حد قولها :
- كان بجوار سور الحديقة .. لم يكن ملفوفا بالأغطية ..بل بعلم فلسطين ؟! أنا الذى لففته بالأغطية .. كان يرقص برجليه رقصة محببة بديعة ! كأنه يدعونى إليه ! ويصدر أصواتا يناجينى بها ومع ذلك إقتربت منه وأنا خائفة .. خشية ان يرانى أحد من أصله ! ولما إطمأننت زدت إقترابا حتى طالعت علم فلسطين ووجهه ! الذى كف عن المناغاه والنهنهة وابتسم - ترقبا لى - إبتسامة حلوة وتوالى ترفيصه برجليه وكأنه فرح لمرأى أمه ! فلم أملك نفسى والتقفته من الأرض القاسية وألقيت به فى حضنى وأنا أبكى بصوت غير مسموع كيلا ألفت الأنظار ولاأدرى لم كأننى كنت أسرق !
وسكتت عن الكلام المثير هنيهة تنهدت إبانها تنهدة حرى من أعماق صدرها وكأنها تطرد عنه هما ثقيلا واستطردت فيما يشبه التضرع :
- وجئت به إليكم .. بالله يا بابا .. دعه لى .. إنه لاجىء فلسطينى ! .. نع .. نعم حيث الحياة هناك لاتناسب وليدا جميلا مثله .. نعم .. نعم لا ألبان ولا أدوية فى الأجزخانات ! وبرد وظلام بسبب الحصار الذى يفرضه العدو لتركيع الشعب قد قال لنا ذلك أساتذة الدين والدراسات الإجتماعية .. وسمعته فى نشرات الأخبار .. بالله لنكفله فى بيتنا .. إنه يتيم ولاجىء فلسطينى ! أنا عايزه \"نونو\" .. عايزه هذا النونو بالذات !
همهمت بها بمزيد من الرجاء والتوسل وانخرطت فى بكاء له نبرات أخرى موجعة غير الذى إعتادوه منها قبلا عندما كانت تطلب شيئا غيرملائم من قبيل \" دلع آخر العنقود \" وكأنها تكابدعلة ما داخل نفسها .. وكان جميع أفراد أسرتها حتى هذه الآونة ما زالوا يحدقون فاغرى الأفواه من شدة الدهش وعدم التصديق لما يرونه ويسمعونه ومضى وقت طويل .. ثقيل الوطأة على الأنفس المتحيرة التى أخذت بما تجرى عليه أمور تلك الطفلة الغريبة المتسلطة التى يبدو أن شراع توازنها وإتزانها قد غادر موانيها الآمنة إلى أعالى بحار الظلمات وأنه لاأمل فى أن يبلغ بها بر الأمان كرة أخرى إلا بمعجزة من الله الرحمن الرحيم .. وما لبث الأب لسعة أفقه وعميق إدراكه أن تمالك رباطة جأشه ونظر إليها وفؤاده يختلج داخل صدره إشفاقا على صغيرته وقال لها بصوت رفيق :
- ولكن يا رضوى .. هذا ليس إبننا وهناك مسئولية جسيمة علينا وعلى بابا حبيبك بالذات لو أننا إحتفظنا به دون أن نخطر السلطات عنه .. ماذا حدث لك ياحبيبتى ؟.. الله يهديك ..
صاحت بفصاحة متناهية لايدرى أحد من أين واتتها :
- عن أية مسئولية جسيمة تتحدث ياأطيب أب .. قلت لك أنه لاجىء فلسطينى ويتيم ويحق له أن نكفله إن لم يكن بإسم ديننا فبإسم الرحمة .. إنه عزيز قوم يأبى حصار وذل المحتل الغاصب !
- لاحول ولاقوة إلا بالله !
واحتواها الأب بين ذراعيه بوليدها الذى كان يلتصق بصدرها وادعا هادئا مطمئنا كما لو كان صدر أمه وراح يربت والدموع تسح من عينيها من فرط الوجد والتحنان فطفرت من عينه هو الآخر دمعة حدب وعطف وهو ينقل البصر بينها وبين الوليد ليمتص إنفعالاتها الباطنة التى لم تكن على المرام وحذت الأم حذوه وكذلك شقيقتها وعاد الأثنان للمراقبة على حين واصل الأب حديثه فى رقة متناهية قائلا :
- علينا أن نسلمه للشرطة وهى تتصرف مع الجهات الإجتماعية المختصة ..
هتفت بتوسل وهى تبعد \"خدها\" الذى ألصقته بمحيا الوليد :
- ولكنى أريده !
خرج الأب عن هدوئه بغتة وقال مؤكدا بإنفعال :
- ليس إبننا .. وليس من حقنا الإحتفاظ به .. هذا ليس لعبة .. إنه إنسان من حقه إسم وأم ترضعه وأسرة تكفله حتى يكبر ويصبح من حقه التعليم وباقى حقوق الإنسان التى تعرفينها والتى درستها فى كتاب المطالعة يا رضوى !
وتلقفت الأم الخيط من الأب لتخفف من إنفعاله وقالت مكملة حديثه :
- بكرة تكبرى يارضوى وتتزوجى ويكون لك طفل أجمل منه !
صاحت بضيق ذرع وهى تنهنه من بكاء تحول جاهدة أن توقفه :
- باقى سنين طويلة حتى يتحقق لى ذلك ! وقد لاأتزوج بسهولة .. أو أصير عانسا مثل كثيرات فى أيامنا هذه .. ألا تعرفون مشكلة العنوسة ؟!
فغر الوالد فاه دهشا مما يسمع ولم ينطق بكلمة على حين راوغتها أمها مجارية إياها قائلة :
- ليكن .. تاهت ولقيناها .. ستتزوج أختك أو أخوك وينجب أحدهما ويكون معك طفل !
- يا سلام ولم لايكون طفلى أنا !
وصمتت لحظة ثم إسترسلت فى براءة لاحدود لها وكأنها تذكرت أمرا هاما وهى تكفكف دمعها :
- قلت لكم أنه فلسطينى لاجىء بدليل علم فلسطين الأخضر فى أحمر الذى وجدته فى حاشيته .. وهاهو .. أين ذهب .. أين هو ..
وطفقت تفند حواشى لفائف الوليد إلى أن عثرت به فإستخلصته ونشرته بيدها الحرة التى لاتحمل الطفل فى الفراغ أمامهم .. كان علم فلسطين فعلا وحدق الجميع فيه وسؤال زاعق يرتسم فى أعينهم \" لله درك يا رضوى أنى لك هذا العلم \" بينما ردت عليهم هى فيما يشبه نظرة ولهجة الإنتصار قائلة :
- صدقتم .. وهو ليس لقيطا ولا بحاجة لإسم .. إن له إسم .. يوسف خليل جامع ! .. هذا هو أسمه فى شهادة ميلاده .. وهاهى شهادة ميلاده ..
تابع .....
الجزء الرابع
- إنهم شعب الجبارين .. !!
وتوقفت أنامل رضوى عن تفنيد حواشى لفائف الوليد باحثة عما تزعم .. ولم يكن سبب توقفها ما إخترق أذنيها من قول الأب الذى واصل :
- لقد خلق العدو الذى يقبع عندما تلتوى رقبة البحر وتنتهى حدود سيناء لنفسه شعبا كالجبال لاتهزه ريح !
وارتعشت أناملها مترددة وبدت أنها نمكر مكرالتتحاشى أمرا آخر غير الذى سمعته من والدها الذى كان أشد مكرا فأردف :
- شعب لايهاب الموت من طول ما تعرض له فتكونت لديه مناعة صلدة ضده خلال ستون عاما إنصرمت على الإنصهار فى المحرقة التى أتى بها عدوه المحتل معه من حوارى أوربا ثأرا لنفسه ممن أحرقوه بإحراق شعب آخر وضحية أخرى .. ! وبرضى وتشجيع ممن أحرقوه طبعا أو تكفيرا عن ذنبهم لأنهم بالضرورة لا يملكون إلا السكوت عن الجريمة الجديدة التى كانت عين الجريمة القديمة التى سبق لهم إرتكابها فى حق المجرم الجديد ! والمثل يقول : فاقد الشىء لايعطيه و وتوقف ليرى الجزء الرابع
أثر كلامه على طفلته التى بدت مقتنعة تماما بكل كلمة فاه بها.. وأكثر من ذلك فعل فى نفسها فعل السحر فقد عرف طريقه لكشف لغز تلك النفس وبدأ يزعزع ما قر فى أعماقها من جذور الأحزان لما حدث ويحدث - يوميا - للبشر العاديين وللأطفال بصفة خاصة من إبادة جماعية فى هذه البقعة المقدسة من الأرض \" وطن كل الأنبيا ء الذين سبقوا خاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام \" .. ولصمت العالم \" وبينهم الأشقاء فى الآونة الأخيرة \" عما يجرى وكأنهم – على حد قول الأب – يكفرون عن ذنب إرتكبه غيرهم ويسددون دينا على غيرهم من رصيدهم فى بنك الحياة الذى لاينضب بل يتزايد كلما تعرض لمحاولات السطو والمحق !
والذى أدرك بنظره الثاقب انه ضعضع عزيمة إبنته فقرر أن يضرب - ككل الأذكياء- على الحديد وهو ساخن ودمدم بلهجة رصينة مؤثرة مستطردا :
- أنت يا إبنتى الحبيبة تهينين هذا الشعب العريق وتشهرين به من حيث لاتشعرين عندما تزعمين دون قصد وبنية حسنة أن الطفل اللقيط ينتسب إليه !.. نعم حزنك على الأم وأطفالها الأربعة وغيرهم قبلهم أمهات وأطفال كثيرين هو ما يجعلك تتخيلين على الرغم منك وقوع أمور غير معقولة فكيف يتسنى لرضيع أن ينتقل من غزة إلى القاهرة ! هل طار فوق صاروخ قسام ! أم وقع من جيب أمه عند معبر رفح المغلق فوقع على الناحية الأخرى فى صندوق سيارة \"ربع نقل تتبع مرور القاهرة\" وسافر به السائق حتى بلغ الشارع الذى تقع به مدرستك فألقى به دون أن يفطن له كالزبالة ! .. أفيقى مما أنت فيه من أوهام وغفلة يا حبيبتى من أجلنا جميعا ! ومن أجل الطفل الذى تعقدين مشكلته بإ دعاءاتك التى لايصدقها عقل .. بينا حلها سهل فى قسم الشرطة !
كان آذان صلاة العصر يوشك أن يرتفع ولم يتريث الأب ليسمع رأى إبنته فيما قال لثقته فى أنه أصاب منها هدفه وخرج لايلوى على شىء معلنا وهو يخطو أنه سيصلى فى الجامع المجاور ثم سيبتاع إبان عودته بعض إحتياجات الرضيع من\"اللبن الجاف والكوافيل والحفاضات وأدوات الإرضاع ودواء شهير لتسكين ما قد يعتمل فى بطنه من مغص يعرف بخبرته أنه يواكب دائما الأسابيع الأولى من حياة الأطفال .. وساورت رضوى مشاعر توزعت بين الأمل والغبطة فهاهو والدها فيما يبدو وقد تراجع بعض الشىء عن موقفه يظهر إهتماما وعطفا على الصغير المسكين بيد أنه خيب رجاءها وهى تتسمع بإهتمام بالغ إلى آخر كلماته حيث قال :
- وسيتعين علينا بعد العصر أن نذهب به لقسم الشرطة .. للإبلاغ عن واقعة عثورنا عليه وهى التى لها ان تتصرف !
فتعالى نحيبها مرة أخرى مخيبة الآمال بدورها بعد أن توهم الجميع أنها برأت مما أصابها وإندفعت تتوارى فى غرفتها عن الأعين وفى عين اللحظة وكأنه توافق متفق عليه إرتفع صراخ الطفل فإستدارت إليه قبيل إختفائها وإختطفته من موضعه علىالأريكة وهى تضمه إلى صدرها وتهدهده تارة وتضع وجهه كله على جانب خدها فى وجد وتحنان وتقبله تارة أخرى .. لا لم يكن - كألدمية تلهو بها – فإنها كانت تحمل له فى حناياها ما هو أكبر من اللهو واللعب ونفث نوازع غريزية لم تزل بعد فى طور البادرة ! .. لقد كانت - كما أسلفنا – عواطف أمومة كاملة والغريب ان الصغير كان يبادلها شعورها فقد كف عن النحيب بمجرد أن إشتمها وأحس بأناملها تمسكه بحرص وتضعه فوق قلبها ليتبادل حديثا هامسا مع دقاته يعبر به عن كامل سعادته بها وحبه لها مناجاة أو بمعنى أصح مناغاة يعرف مدى جمالها وعذوبتها من جرب أن يكون أما أو أبا !
تابع ......
الجزء الخامس
وسارت الأمور بعد صلاة العصر فى الطريق الذى رسمه الأب بعد أن آب للمنزل وسلم آله ما ابتاعه من إ حتياجات الرضيع وانتظر ثمه حتى انتهت - فى جو من السعادة والمرح - مراسم رعايته وتوجيبه ثم خرج به وبإبنته قاصدا قسم الشرطة ومع قربه من المسكن فإنه آثر أن يستقلوا سيارة \" أجره \" ليتجنبوا نظرات الجيران وفضول المارة من أهل الشارع الذين يعرفونه جيدا .
وهناك فى القسم قدم البلاغ على الوجه الذى أملاه عليه الضابط \" النوبتجى \" وشرح فيه بكل دقة كيف وأين ومتى عثرت الفتاة على الرضيع .. وفى النهاية طلب إليه مراجعة ماتوصلت إليه النيابة العامة من قرار
بعد إستطلاع رأى الشئون الإجتماعية ومؤسسة رعاية الأيتام بعد ظهر اليوم التالى وكان هذا يعنى عودتهما بالطفل ثانية للبيت وفرحت البنت - أيما فرح – وأعلنت ذلك بطريقة إبتسم لها الضابط بإستغراب وخشى
والدها أن تفوه بكلمة من أوهامها تثير ريبته فعاجله موضحا بقوله :
- إنها مغرمة بالأطفال الرضع بصورةغريبة وتضع نفسها وأسرتها فى مواقف لاتحسد عليها كا ترى سعادتك !
فهز الضابط رأسه متفهما .. وإنصرفا بالطفل .
وكان الصباح التالى غاية فى التأزم وسقوط الأمور غير المقبولة فى الأيدى العاجزة فقد أمر الوالد إبنته بالتوجه للمدرسة تاركة له \" وحده \" تصريف المستجدات التى تراها جهات الإختصاص مناسبة للوليد وكيف
أنه من الآن فصاعدا لن يلبى لها أية رغبة - مهما كانت هينة - إن ركبت رأسها ! والغريب أن تهديده لم يزدها - كما تخوف - إلا تمسكا متعللة بأن تغيب يوم واحد عن الدراسة لن يضيرها ويمكنها بمراجعة مع زميلاتها تعويضه والأغرب أن يتنازل – وهذا خطأ فادح - لفتت الأم نظره إليه متذرعا لها بأن وجودها مع الوليد سيهدىء من روعه ثم أنه فى حد ذاته من الأهمية بمكان لأنها التى عثرت عليه .
وبعد صلاة الظهر ذهبا بالوليد لقسم الشرطة يستعلمان فوجدا السلطلة المعنية قد توصلت إلى قراربتواريخ تنفيذية محددة بأن يتم تسليمه لأم بالأجر ترعاه إلى أن يبلغ العام ومن ثم يدفع به إلى أحد ملاجىء الأيتام
التى لا تقبل الأطفال الذين تقل سنهم عن سنة !
ومرة ثانية تفرح رضوى فرحة عارمة تستدعى بسمة أكبر منها علامة الإستفهام التى ملأت وجه الضابط من غرابة أطوار تلك الفتاة الصغيرة التى إعتقدت أنهم سيتركونه لها عاما بأكمله .. واشتد بأبيها الخوف من أن يصدر عنها مالا تسعفه حيلته هذه المرة لتبرير ولعها بهذا الصغير بالذات !ونظر إليها كأنما يستعطفها وفى ذات الوقت اشفق على نفسه من أن يتدنى حاله معها إلى هذه الدرجة فأدخله هذا فى حالة شبيهة
بحالة إنعدام الوزن وألفى نفسه – بلا إرادة – يستشعر وكأنه طائر بجناحين يساير محبوبته الصغيرة محلقا فى أجواء لم يعتد علوها الشاهق من قبل ولاحتى فى قابل أيامه عندما كان مراهقا مشبوب العاطفة واسع الخيال .. أجواء صافية وضاءة لم ير مثيلا لنقائها ونورها .. كأنهما يرفان معا فى سماء ليلة معجزة مثل ليلة القدر او فى إحدى سموات الجنة السبع الأقرب إلى \" عليين \" التى يطير فيها أبرار بين قمم أشجارباسقة لكلمات طيبة لم يقدرعلى قولها من أهل الأرض إلا القلة النادرة ولم يرتقيها لأعلى إلا كل ذى نفس مطمئنة وهم ليسوا من الكثرة التى تناسب ثبات أصول الشجرة فى الأرض ! .. أبرار بوجوه إنسانية ملائكية وبأجساد وأجنحة طيورالجنة الفيروزية النورانية أتوا من بلاد وأراضين عدة غير أن الذين جاءوا منهم من أرض الأنبياء أكثر لأن هناك \"ضحية\" عالم ظالم تبحث لنفسها بالمذابح والمحارق عن أرض وطن! معها
حق والله محبوبته فى ولعها بهذا الرضيع بالذات .. معها حق !
- معها حق !
- أفندم !
تساءل الضابط فإنتبه ألأب من حلمه - الذى إستحوز عليه وهو يقظ يقف على قدميه - بسرعة فائقة ..وأرخى النظر عن إبنته التى فوجئت بعدد من السيدات الجالسات فى غرفة الضابط تتهافتن عليها كل واحدة
تبغى خطف الطفل منها بمجرد أن وقعت أبصارهن عليه بين ذراعيها وتنافسن فى ذلك لدرجة هددت سلامتة وأمنها .. فأسرع الضابط بإبعادهن على حين صاحت الفتاة فيهن مكشرة عن أنياب لم يسبق لوالدها أن
رآها قبلا :
- على جثتى لو أخذه أحد منى ! انا التى وجدته وأنا الأحق به ! لايظنن أحد أنه لقيط أو رزق حدفه الله عليه .. إن له إسم ووطن وأهل جبابرة لاقبل لأحد بملاقاتهم ! وهو لى .. لى .. أنا التى أعرف قيمته !
وعلا صراخ الطفل لما سمع صياحها وكأنه يعلن للقاصى والدانى تضامنه معها ولم يهدأ إلابعد أن إنتحت به جانبا حالسة على \" دكة \" خشبية منزوية فى أحد الأركان وإلتقطت من حقيبة يد صغيرة كانت تحملها
طول الوقت \" بزازة رضاعة \" وألقمتها فى فيه فسكن تماما ومضى فى شفط محلول اللبن بنهم مصدرا صوتا شبه منتظم من توالى إلتحام وإنفراج شفتيه بين الفينة والفينة بجلد \" البزازة \" المصنوع من مادة بلاستيكية شفافة ومرنة فيما يشبه \" المزمزة \" ! وأنظار الحضور جميعا بما فيهم النسوة اللائى أتين ينشدنه لسبب لا تعلمه حتى ذاك الحين فهى لاتدرى .. من إستدعاهن ؟ وكيف بلغهن خبره ؟ ومن أين أتين ؟
ولماذا هذا التكالب على إقتنائه ؟ ,
كانت رقة الحال تبدو عليهن من ثيابهن ومن طريقتهن فى الحديث والتعبيرات والألفاظ التى تتبادلنها وكأنهن فى سوق شعبى للخضار أو على شفا معركة تستخدم فيها بإفراط قاذفات الشتائم ! ثم على حين غرة وقع ما لم تحلم رضوى بحدوثه ...
تابع ...
الجزء السادس
عندما حضرت السيدة \" مآثر \" مفتشة الشئون الإجتماعية فسرت بينهن همهمات وهمسات وشهقات ونظرات وعبرات غير مفهومة وكأنهن رأين عدوا لدودا قويا لاقبل لهن بمواجهته وخصوصا حال تدافعت أنظارها نحوهن والشرر يتطاير من عينيها مزمجرة بصوت عال مخاطبة إياهن وكأنها تصرخ فيهن :
- أنتن هنا ؟ .. مرة أخرى .. ؟ ألم أنبه عليكن ألا أرى وجوهكن فى أى مكان أذهب إليه ؟! .. هيا من هنا .. هيا يادلالات الأطفال وإلا كتبت فيكن بلاغا للنيابة يفضى بكن للسجن !
وميزت رضوى وهى ترنو بعينين تلتمعان إكبارا وغبطة إلى المفتشة التى تمارس واجبات وظيفتها بعض عبارات مثل \" لا .. وعلى إيه الطيب أحسن ! \" و \" إحنا كنا فين والست دى فين ؟! \" و \" ربنا على القوى والمفترى ! \" ومثل \" يا للا يا بنات ال ... ! \" وهن تتدافسن أيهن تسبق الأخرى إلى باب الإنصراف تتخبط مؤخراتهن فى بعضهن مما كان له بالغ الأثر فى نفس رضوى وجميع الحاضرين الذين شاهدوا
المنظر الفكه فتعالت القهقهات من كل جانب واستنار محيا الصغيرة ببداية فرحة وهى ترى الساحة وقد خلت إلا منها وأيضا لأن الوليد كان يثبت عينيه على هذا المحيا الطاهر الجميل لاتبرحانه ! واستبشرت خيرا
بذلك وبالسيدة التى حضرت لتضع النقاط على الحروف وإن كان قد أخذها الدهش والإنبهار لحظة ظهورها بعض الشىء ولاحظ والدها والحضور جميعا فيما بعد أن ثمة شعور بالود متبادل بينهما وبالذات حين شهقت السشيدة لدى مرآها وهى مكبة على الطفل تكاد أن تحتضنه وهى ترضعه وبصوت منغم يعبر عما يجيش فى صدرها من عجب للمفاجأة واتجهت نحوها بعد ان حيت الضابط بقولها :
- السلام عليكم ياحضرة الضابط .. السلام عليكم جميعا !
ولم تنتظر رد التحية إذ غلبها فضولها فأنشأت تخاطب رضوى :
- رضوى .. أأنت الفتاة التى عثرت على الطفل .. آخر ما كنت أتوقعه ! أنت التى تطالبين بحضانته ؟ ولكنك قاصر يا حبيبتى !
وإنبرت عليها تقبلها ثم أمسكت بالطفل من جانبيه ورفعته لأعلى لتطالعه وتفحصه جيدا وكأن الوليد لم يعجبه تلك الحركة منها ولا نظراتها النافذة التى تخترق بها وجوده فتعالى صراخه بطريقة ملأت ربوع المكان إزعاجا فأعادته إليها بتأفف ولم تبدى أى عطف عليه فإنها إنما كانت تؤدى عملها فحسب ! وغمغمت موجهة حديثها إلى الأب وهى تجلس قبالته على المقعد الثانى الفارغ أمام مكتب الضابط وبلهجة إتخذت
بغتة غنة الوقار والإحترام :
- بابا رضوى ؟ .. انا أم زميلتها بالمدرسة .. نحن نقطن فى الشارع الخلفى لفيلتكم .. ألا تعرفنى ؟ !
أجابها معبرا عن سعادته بحضورها وبأنه سمع عنها من إبنته وزاد على ذلك بأنه يتوقع منها المعاونة للخروج بسلام من \" الورطة \" التى شغلتهم رضوى بها فأكدت له أنها ستبذل مافى وسعها وهى تهون الأمر قائلة :
- ولا ورطة ولاشىء !
وعلى الفور جرى حديث مطول بينها وبين الضابط فإكتفى بالإنصات إليهما باهتمام دون أن يتدخل فى الحديث متاملا منظر إبنته وقد إشرأبت برأسها للأمام وأدارت جانب رأسها قليلا واهتمامها موزع بين تشنيف
أذنيها حتى لاتفوتها كلمة واحدة مما يقال وبين النظر للطفل الذى ملك عليها شعورها ولم يترك أية فرجة إنتباه لأى إنسان آخر من الموجودين ولاحتى والدها فيما بدا له الأمر الذى أشتد له قلقه فقد كان يتوقع إنتزاع
الطفل منها وإيداعه دار الرعاية الإجتماعية تمهيدا لتسليمه للأم التى \" ستستولى \" عليه لمدة عام !
وجاءت اللحظة الحاسمة التى أتم فيها الضابط محضره وقصدت السيدة \"مآثر\" الفتاة تبغى تسلم الوليد منها فأبت وتوسلت إليها بحق زمالتها وصداقتها لإبنتها وحبها له و\" يقينها بأنه ليس يتيما ولا لقيطا \"! وقبل أن
يزل لسانها بكلمة تغضب أباها عن حقيقة ما تتوهمه من أصله سكتت هنيهة إبتلعت فيها ريقها متبادلة معه نظرة تهدئة لخوا طره ! ثم واصلت إستعطافها للمفتشة أن تتركه لها فهى ستعرف كيف تعنى به ودون أجر أو تكلفة من أى نوع على \"الدار\" فضلا عن أنه معها لن يعانى كاليتامى الآخرين مرارةالحرمان وإفتقاد الأم فترددت \" أم صديقتها \" وبانت عليها علائم الحيرة ووجهت نظراتها للأب تستنجد به على إبنته ليتولى عنها أمر إستخلاص الطفل وتسليمه لها بنفسه .. وبدوره أدرك الوالد دقة الموقف فهم إلى إبنته يحايلها بكافة الوسائل لتخطو تلك الخطوة ولم يقنعها غير قوله بأنه يعدها بالعمل على إستعادته لأن النظام يتطلب تقدم شخص راشد لحضانته وسيحادث \" ماما \" فى هذا الشأن ويقنعها أما الآن فإن الإجراءات تستلزم تسليمه للدار كما ترى ولاتخشى عليه فهى دار الرعاية لا الدار الآخرة !
واستسلمت الفتاة المغلوبة على أمرها وبدأت تتخلى عنه والدموع تنهمر من مآقيها - مرة اخرى – صامتة .. مصبورة كأنهم ينزعون قطعة من فؤادها او كبدها ! وما إستقر بين أذرع المفتشة حتى ملأ جو المكان ثانية بسرسعة صراخه التى كان لها وقعا يمزق نياط القلب فلم تتحمل الفتاة ووثبت تروم إستعادته فما كان من والدها إلا أن وثب بدوره وأمسك بها قبل أن تحط وثبتها على المفتشة وانتزعها مبعدنها من المكان ولم
يجد بدا من تهديدها \" بأنها إن لم تهدأ وتسير معه إلى البيت فى صمت كالقطة الأليفة التى تحب أصحابها فسيغضب منها ويخاصمها للأبد ! \" وكان فى يديه وصوته حسما وحزما اشعرها بالخوف من أن يستعمل
حيالها سلطة الأب وتتغير معاملته لها فتفقد مكانتها لديه - وبالتالى لدى باقى أفراد الأسرة الذين كانوايمشون على هداه - وهو على كل حال مايزال إلى تلك اللحظة أبا محبا وعطوفا وعليها ولو تلك المرة أن تنصف نفسها وتبرهن للجميع انها فتاة عاقلة وجديرة بحبهم !
وعاشت الأسرة الأيام التالية تعانى محنة لم يعرف لها أحد مخرجا فإن رضوى إلتزمت غرفتها لاتبرحها ولا تتكلم أو تأكل أو تشرب أو تذهب للمدرسة وزارتها زميلاتها وعلى رأسهن إبنة السيدة \" مآثر\" وبذل الجميع جهودا مضنية لإقناعها بالخروج من عزلتها فإن هذا مسلك لايليق بفتاة مهذبة مثلها وسيضربها فى صحتها قبل مصلحتها الدراسية التى ستنتهى بها حتما إلى الرفت لتجاوزها مدة الغياب المسموح بها دون تقديم العذر الرسمى المقبول والذى يتمثل فى شهادة طبية تثبت مرضها من جهة مسئولة .. وفطن والدها إلى هذا فأخذ إحتياطاته للحصول على الشهادة فإن إبنته بهذه الحال التى إكتنفتها مريضة فعلا وتستحق العلاج واعتبارها بأجازة مرضية حتى تبرأ .. وبوسيلة ما أقنع طبيب الصحة المدرسية بالحضور للمنزل وإجراء الكشف به ولو أن هذا الإجراء غير مطروق إلا نادرا .. وإذا كان قد ضمن بهذا عدم رفتها من القيد
بالمدرسة بيد أنه كان والأسرة كلها فى قلق شديد لأن هناك خسارة مؤكدة من عدم تلقيها علومها الدراسية وفقدانها درجات أعمال السنة والإختبارات الشهرية التى تدخل فى المكون العام لدرجات النجاح فى إمتحان نصف العام أو آخره .. فاذا عليهم أن يفعلوا لتدارك الأمر ؟ أيققون لها رغبتها فى إقتناء الطفل أم يواصلون رفضهم مع ما فى هذا الرفض من مخاطر وشيكة الوقوع ....
تابع ....
الجزء السابع (الأخير)
وقد بدات بعض بوادرها تظهر على حالتها الصحية فقد هزلت وبدأت تفقد وعيها أوقاتا طويلة من شده ضعفها وحزنها مما ينذر بفقدان حياتها وهذه أكبر جريرة - بل أكبرنقمة - ممكن ان تصيب أبا أو أما أن يفجعا فى إبنتهما الأثيره إلى قلبيهما وقد كان بأيديهما إنقاذها .. فماذا عليهما أن يفعلا ؟ ..إن الأمر لم يعد يحتمل إنتظارا ...
وقد جاءت والدة زميلتها مفتشه الشئون الإجتماعيه لزيارتها لما علمت بتدهور حالتها واستقبلتها أمها وأبوها ببالغ الترحاب وقد إنتعشت البنت قليلا مع ضعفها وعدم قدرتها على مغادرة الفراش فقد أتعش ذلك آمالها فى إستعاده الطفل .. وتوهج هذا الأمل أكثر لما رأت الأب والأم يتبادلان خلسه حديثا هامسا بعد أن أسرت الضيفة فى آذانهما خبرا خمنت أنه - على الأرجح - يتعلق بالطفل - وقد كان يخصه فعلا لكنها لو ألمت به لتضاعفت مواجعها لأنه منذ فارقها ممتنع عن الرضاعة ويواصل الصراخ ليلا ونهارا إلى أن يفقد الوعى وقد أعادته الأم البديلة للدار مخافة أن ينفق منها وتحمل ذنبه ! والغريب إمتناع أى من النسوة اللائى كن يتنافسن عليه للحلول محلها فقد إنتشر خبره .. وإذن .. إذن تسلل إلى نفس الفتاة بصيص نوريبدد بعضا من ظلام اليأس والقنوط وبالذات حين إستدعيا السيدة (مآثر) الى مشاركتهما الحديث وغاب ثلاثتهم فىمحادثه طويلة بصوت منخفض ويبدو أنهم توصلوا الى قرار هام مفاجىء .. إذ وقف الأب على مسافة من باب الغرفة ووالدتها الى جانبه بينما تقدمت منتهى أملها إليها قائلة بنبرة خفيضة كلها رقه وعطف وشفقه :
- ليكن يارضوى .. وافقت والدتك مشكورة على إستلام الولد وحضانته !
فدبت فى قلبها فرحة وسعادة أعادت لون الورد إلىوجنتيها وجعلتها تهب من نومها واقفة على فى حركة غير محسوبة ولاطاقة لها عليها وما هى إلا أن خذلتها ساقيها بعد بضع ثوان إنهارت على اثرها محطمة على الفراش وكأنها كومة عظام بلا لحم ولا أوردة أو جلد يشى بكل ما يحتويه من معطيات الحياة .. وهرعت الأم إليها وفى إثرها الأب واحتضناها بشدة وحنان وأقاما عودها واحدا من الخلف والأخرى من الأمام ليمنعانها من الإنهيار النهائى على حين كانت كرباء الفرح تنتتفض فى خلاياها وتستدعى كل ما فى هذه الخلايا من دماء وتحيل لونها الأبيض الشاحب الذى كان أقرب إلى لون الملاءة التى تتغطى بها لتدارى مظاهر إنهيارها الصحى إلى لون أحمر خفيف واسترعى التغير الجسدى الذى دبت به روح جديدة أنظار أمها وأباها والضيفة فاستنارت الوجوه وابتهجت النفوس وسألت الفتاة وهى تنهنه ولاتكاد تملك أعصابها من فرط بهجتها وسرورها بكلمة واحدة مقتضبة :
- متى .. ؟
أجابت أم صديقتها وكأنها تنتحل كدبة :
- غد .. غدا !
تمتمت فى وناء ورجاء :
- غدغدا .. ؟! ولماذا لايكون اليوم .. ؟
أجابتها وهى تستعد للإنصراف :
- سأبذل ما فى وسعى ..
وحيت الأب والأم ودلفت صوب باب الخروج وكان لوقع كعب حذائها وهى تنقر أرضية الصالة الخارجية فى أذنى رضوى صوت الموسيقى .. آه .. لشد ما تحبها وتقر لها بالعرفان بالجميل .. إنها أجمل وأرق مفتش
شئون إجتماعية فى مصر وإنها لن تنسى فضلها عليها ما عاشت !
- أمى .. أمى الحبيبة الفاتنة .. الطعام .. ! طعام كثير ! أريد طعاما كثيرا .. فته ..وشوربة خضار .. وأرز مفلفل .. ودجاج بلدى !
وترامى إلى سمعها صوت تلفاز الجيران وتلك المغنية الفرنسية المصرية المولد الشبراوية النشأة تصدح لحنا محببا إلى نفسها مغنية:
- غنوه حلوه وكلمتين .. حلوه يا بلدى !
فرددت معها اللحن وهى تتراقص بخفة من ضعف فوق السرير وإستخفها المرح والجذل وبدت أنها تذكرت بغتة أمرا هاما فهتفت :
- الأخبار .. تقارير المراسلين ! إفتحوا التليفزيون ! .. أخبار القنوات الفضائية .. من فضلكم .. إفتحوا التليفزيون ! .. أخبار فلسطين ! أخبار قذف الطائرات والدبابات للبيوت واستشهاد الأطفال والنساء والشيوخ !
أيها العالم الظالم أتساءل .. من يضرب من ؟ .. من يدافع عن نفسه .. المسلح بكل ما عرفه البشر من صنوف الأسلحة فى الأرض والبحر والجو .. المحظور منها قبل المسموح ! والشعب الذى كله جيش .. أم المدنيين العزل والشعب الذى بلا جيش وكل أسلحته بسبب الحصار الذى يضربه العدو والعالم كله .. صنعت فى الورش البدائية للحدادين ذوى الكور!! ولا أكثر من الطوب والحجارة والنعال ! والزجاجات الفارغة والمقاليع والنبال ! من يضرب من ؟ .. من المهاجم المعتدى .. ومن المدافع الأعزل .. من .. من .. من .. ؟
وراحت تكرر الكلمة بإنفعال عارم حتى نال منها التعب كل منال وهوت إالى حيث لاتشعر ولا تدرى ثانبة دون أن تأكل ثريدا ولا أرزا .وذكرى نقر الكعب العالى لحذاء المفتشه تنقر هذه المرة رأسها تلك التى زهبت ولم تات بالرضيع البائس لافى نفس اليوم ولا فى اليوم التالىولا حتى بعد أسبوع ودون أن تتصل لتقدم عذرا أو تبريرا.. الأمر الذى تدهورت له حالة البنت كثيرا وأوشكت أن تقضى نحبها لولا أن عناية الله تدخلت إذ أن الم شعرت بدوار ورغبة توالت فى القيىء فأخذها الأب للطبيب وكانت مفاجأة لامعقولة أن يعلن لهما الطبيب أنها حامل فى الأيام الأولى ! ولم يصدق الأب .. لم تصدق الأم وتبادل الأثنان نظرات الذهول والفضول فقد كانا لايفهمان ولايجدان تفسيرا لتلك العاطفة وهذا الحب الذى إندلع لهيبه بينهما فى الشهر الأخير منذ بدأت إبنتهما تطلبهما بطفل وكأنها كانت تحثهما أن يأتيا لها بأخ أو أخت .. وكلما ساءت حالتها النفسية من جراء عدم تحقيق أمنيتها كلما بعثرالوالدان - بإفراط - هذا الحب بينهما فيما يشبه الدفاع عن حياة إبنتهما إعتقادا منهما أن الأرض الخصبة صارت جبوبا لاتنبت زرعا ولكن هاهو الطبيب يعلن أنها أنبتت فلم يصدقا سمعهما وحاوراه بأن ذلك من رابع المستحيلات لأن الطمث - علامة إستمرار الخصوبة – قد إنقطع تقريبا عن الأم فى العام الأخير وتقريبا وليس قطعا لأنه كانت هناك آثار بسيطة لاتذكر فهل يوجد فى علم الطب وصف لمثل هذه الحالة .. أجابهما الطبيب مبتسما :
- لايوجد فى علم الطب وصف إلا حيثما تحدثنا عن الحمل الكاذب ! وقد يكون هناك ثمة خطأ فى حساباتكما ولكن يوجد فى علم وقدرة ورحمة الخالق سبحانه ما هو أكبر من ذلك . .
نكس الأثنان رأسيهما علامة على الإيمان والتسليم وغمغما فى صوت واحد :
- ونعم بالله .. هو القادر على كل شىء .. حمدا لله .. هذا أجمل خبر سمعناه فى حياتنا ..
وشردا بتفكيرهما بعيدا وبانت عليها علائم الشرود فتساءل الطبيب :
- ماذا .. ؟
فأجاباه بصوت واحد أيضا :
- لا.. لاشىء .. لاتشغل بالك بنا .. إنما نفكر فى إبنة عزيزة علينا ستطير من الفرح عندما تسمع الخبر ! رحمة الله وسعت كل شىء .. والحب يصنع المعجزات فعلا !
وسكتا هنيهة ثم تبادلا نظرة تفاهم وابتسامة عاطفة إستطردا بعدها بالقول دفعة واحدة :
- معك حق قد يكون هناك ثمة خطأ فى حساباتنا ..
- أفندم ؟!
قالها الطبيب بلهجة متسائلة كأنه لم يسمع فأسرعا يجيبان وهما يخطوان خارجا وقد تأبط أحدهما ذراع الآخر وفرحة وليدة تغمرهما بالحب وتعيد إليهما إحساس الشباب وذكريات الأيام الخالية الجميلة :
- لا.. لاشىء.. لاتشغل بالك ..
وضحكا سويا وأضافا :
- السلامو عليكو .. !
وفى البيت كانت تنتظرهما مفاجأة ثانية سعيدة إذ ألفيا السيدة \" مآثر \" فى إنتظارهما ورضوى جالسة بعيدا عن غرفة نومها وهى تهدهد على رجليها الوليد وتكاد أن تلتهمه بعينيها وشفتيها وتضعه على صدرها فى مكان القلب كأنها تروم أن تخبئه داخله ولاتبدوعليها علامات المرض فقد شفيت تماما .. وبمجرد أن وقع بصرها على والديها ألقت بالطفل فى أحضانها وهتفت فى جذل ومرح :
- تفضلى با ست ماما إبنك !
وتساءلت الأم وهى شاردة غائبة الذهن :
- إبنى ؟!
على حين قامت السيدة مآثروبيدها سجل وأوراق وطلبت إلى الأم أن توقع عليها فوقعت دون أن تقرأ والضيفة تعتذر عن الأسبوع الذى تأخرته وعزت ذلك لبطء الإجراءات بينما الأب يطالع فى سرور ماتوقع عليه
زوجته وشريكة حياته وبعد ان إنتهت أودعت المفتشة الأوراق والسجل حقيبة عملها بعناية وأناقة وسلمت على الجميع بحرارة ودلفت صوب باب الخروج وكان لوقع \" بوز \" حذائها وهى تنقر بأقدامها فى همة أرضية الصالة الخارجية وقع الموسيقى فى أذنى رضوى وبغتة تغير لونها وبان عليها أنها تذكرت شيئا هاما فأسرعت بالسيدة قائلة فى أعقابها قبل أن تختفى وهى ترفع عقيرتها بالصياح لتسمع :
- لاتنسى تحرير شهادة له ...
وسكتت برهة تنهدت إبانها ثم أضافت :
- إسمه .. يوسف .. خليل .. جامع !!
وعندما سألها والدها بعد عودتها إليهم :
- أية شهادة ؟
أجابنه بكل عزة وثقة وبساطة :
- شهادة حياة ......
تمت بحمد الله.