لاشك أن ما قصه الله -تعالى- علينا هو أحسن القصص، قال الله -تعالى-:
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
هَذَا الْقُرْآنَ )(يوسف:3)، وهذا يتناول كل ما قصه الله في كتابه، فهو
أحسن القصص.
و"أحسن القصص" قيل: إنه مصدر، وقيل: إنه مفعول به، وعلى القول الأول يكون
المعنى: نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص، كما يقال: نكلمك أحسن التكليم،
ونبيِّن لك أحسن البيان. وعلى القول الثاني يكون المعنى: نحن نقص عليك أحسن
ما يُقص، أي أحسن الأخبار المقصوصات.
ويدل على هذا المعنى وأنه المدار قوله -تعالى- في قصة موسى -عليه السلام-:
(فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ)(القصص:25)، وقوله -تعالى-:
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ)(يوسف:111).
وقال شيخ الإسلام بعد أن ذكر القولين: والصحيح أن "القصص" في قوله -تعالى-:
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) مفعول به، وإن كان أصله
مصدراً، ولكن غلب استعماله في المفعول به. مجموع فتاوى شيخ الإسلام
ج17/ص22.
فهذه الأخبار عن الأمم السابقة والأحداث الماضية هي أحسن الأخبار المقصوصة؛
لما فيها من حقائق ومعانٍ وأنماط من المدافعات بين أهل الحق وأهل الباطل
وعِبَر، وفيها بيان لمناهج الأنبياء في الدعوة إلى الله -تعالى-، والتزامهم
بها وصبرهم عليها، والتأسي بهم فيها، قال -تعالى- مخاطباً النبي -صلى الله
عليه وسلم- وأمته من بعده: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(الأنعام:90).
والتأسي بهم إنما يكون في أساليبهم وطرائقهم في الدعوة، وصبرهم وثباتهم عند
جميع النوائب المقلقة، ومقابلة ذلك بالطمأنينة والسكون والثبات التام،
وهذا له أبلغ الأثر في تربية النفوس المؤمنة على التحمل في سبيل الله
-تعالى-، فما أصاب المؤمنين السابقين الدعاة إلى الله يصيب أيضاً الدعاة
المؤمنين اللاحقين، وبهذا جرت سنة الله في الأولين كما تجري في اللاحقين،
ولكن العاقبة دائماً تكون للمتقين، قال -تعالى-: (وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ)(الأعراف:128).
ومن المعاني المهمة التي تُربى عليها النفس المؤمنة من خلال القصص القرآني
المبارك: الصدق والإخلاص لله في جميع الحركات والسكنات، واحتساب الأجر
والثواب من الله -تعالى-، لا يطلبون من الخلق أجراً ولا جزاءً ولا شكوراً
(يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى
الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ)(هود:51).
ومن المعاني المهمة أيضاً في القصص القرآني إبراز حقيقة عقدية هامة تبرز من
خلال السرد لهذه القصص، هي أن الأنبياء والرسل جميعاً جاؤوا بكلمة واحدة
وقصية واحدة على تتابع الأجيال، كلمة واحدة هي: "لا إله إلا الله"، وقضية
واحدة هي: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ)(لأعراف:59).
وتربية النفوس على التعلق بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، والتوكل عليه،
والإنابة إليه، والخوف منه، وحبه ورجاؤه، والسجود والركوع له، ودعاؤه
والنذر له، والاستعانة والاستغاثة به.....، وفي الجملة: "التوجه إليه بكل
عبادة ظاهرة وباطنة، قلبية أو قولية أو عملية"، كما قال -تعالى-: (قُلْ
إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ)(الأنعام:162-163).
فقضية التوحيد هي القضية الكبرى في حياة البشر، وإنما أرسل الله الرسل من
أجلها، وكل شيء بَعدُ مترتب عليها، فهي قضية الأجيال، وعليها قامت العداوة
بين أهل الحق وأهل الباطل، كما قال -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ
إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ
اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(الممتحنة:4).
وعليها قام سوق الجنة والنار (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(الشورى:7).
والمتقصي لأخبار المرسلين والصالحين في القرآن الكريم يجد هذه القضية واضحة
جلية على اختلاف الأجيال، وتتابع العصور، وهذا يشعر أهل الإيمان أنهم
ينتمون إلى أمة كبيرة موحدة (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(الأنبياء:92).
ومن المعاني الجليلة التي يتربى عليها أهل الإيمان من خلال القصص القرآني،
تصديق الأنبياء السابقين، وإحياء ذكراهم وتخليد آثارهم، وتعظيم محبتهم في
القلوب وموالاتهم، وهذا من كمال الإيمان الواجب. فإننا وإن كنا نؤمن بكل
الأنبياء إجمالاً لأن هذا من أركان الإيمان في دين الإسلام، فالمتأمل في
قصصهم وما وصفهم الله به من الصدق الكامل، والأوصاف العالية التي هي أعلى
الأوصاف، وما لهم من الفضل والإحسان على جميع بني الإنسان، بل وصل إحسانهم
إلى جميع المخلوقات، فهذا الإيمان التفصيلي بالأنبياء يزيد الإيمان كماً
وكيفاً، إما كَمّاً بمعرفة التفصيل بعد الإجمال، وإما كيفاً بالنظر والتأمل
في آيات صدقهم الحسية والمعنوية، ليعلم المؤمن على اليقين أنهم رسل من عند
الله العظيم لهداية البشرية إلى الطريق المستقيم، وإيصالهم إلى السعادة
الحقيقية في الدنيا والآخرة، وتجنب طرق الهلاك والغواية على تشعبها
وكثرتها، والتحذير منها، فما زال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين،
يعظون أقوامهم -وكل قوم بحسب حالهم-، ونحن ننتفع بهذه النصائح الغالية
والعظات النفيسة.
فنوح -عليه السلام- يعظ قومه من غوايتهم وغرورهم، وموسى -عليه السلام- يعظ
فرعون وملته من عتوهم وبطشهم وجبروتهم ويحذرهم مغبة ذلك، ولوط ينذر قومه
عاقبة الفواحش والمنكرات التي يفعلونها، وهود -عليه السلام- ينذر عاد خطورة
الركون إلى القوة المادية التي أعطاهم الله إياها، وأن التجبر والتسلط في
الأرض عقوبته وخيمة.
إلى غير ذلك من العظات التي وجهها رسل الله وأنبياؤه إلى أقوامهم حتى
ينتفعوا بذلك، وينزجروا عن غوايتهم وضلالهم، فإن لم يفعلوا كانت الفائدة
عائدة على غيرهم من أهل لإيمان الذين يتعظون ويعتبرون.
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ)(يوسف:111)،
فأصحاب العقول السليمة والفطر المستقيمة هم الذين ينتفعون بتلك القصص،
فنسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا منهم، وأن يهدينا ويهدي بنا هو ولي ذلك
والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين.